معرفة

فضيلة التخلي: لماذا يكون الترك شرطًا للوصول؟

في العبادات كلها مطلوب منك أن تفعل، وفي الصوم فقط المطلوب منك أن لا تفعل، أن تتخلى.. كيف تجعل من الصوم عدة للرحلة الحتمية القريبة؟

future من مجموعة السلطان قلاوون - شارع المعز بالقاهرة

يحكى أن أحد البلغاء قيل له: نريدك أن تخطب فينا عن أمر ما وسموا موضوعًاَ للحديث، فقال: كم زمن الخطبة حتى أستمهلكم مدة لتحضيرها؟ فقالوا: دقيقة واحدة. قال أمهلوني أسبوعًاَ. فعجبوا من هذه المدة الطويلة المطلوبة لتحضير خطبة موجزة جدًا في دقيقة واحدة، وقال أحدهم: فكيف لو قلنا نريد الخطبة في ثلالثين دقيقة هل ستطلب حينها ثلاثين أسبوعًاَ للتحضير؟ فقال: بل ثلاثة أيام فقط! قال أحدهم: ولو قلنا ساعة؟ قال: أنا جاهز للحديث الآن.

قد يبدو الأمر غريبًا، إذ كيف يحتاج الكلام القليل إلى تجهيز طويل، ثم العكس بالعكس ولا يحتاج الكلام الكثير إلا إلى تجهيز يسير؟! ولكن هذه الغرابة تزول بأدنى تأمل، إذ يدرك المرء أن العسير الصعب هو جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، فيكون الكلام مختصرًا بليغًا يصل إلى فؤاد متلقيه من أقصر طريق، ويكون صاحبه قد أوتي بذلك طرفًا من جوامع الكلم.

***

«وزِنْ الكلامَ إذا نطقتَ ولا تكن

ثرثارةً في كل نادٍ تخطبُ»

— صالح بن عبد القدوس


(1)

شأن كلام البلغاء الحكماء أن يكون قليل العبارة كثير الفائدة، ولا يمكنهم ذلك إلا بترك قليل الفائدة من الكلام إلى كثير الفائدة منه، وربما ترك كثير الفائدة إلى الأكثر، ولا يكون هذا الترك إلا بعد الميزان الذي أمر به ابن عبد القدوس في أبيات الحكمة المأثورة عنه، ومن أشد العوائق بعد الميزان ومعرفة الأولى عائق الترك الواعي المتعمد لأفكار أو لعبارات جميلة نافعة، لكن الوقت لا يتسع لكل نافع جميل، هنا يكون تحدي القتل المتعمد لبعض أفكارنا إفساحََا لمجال الحياة لأفكار أخرى، وما أفكار المرء إلا كأبنائه، فكيف يقتل إنسانٌ ابنه بيده حتى لو كان قتله لصالح حياة أبنائه الآخرين؟!

الكتاب الناجحون إذن قتلة ناجحون، والدنيا وقوانين الطبيعة كلها تقريبًا، قائمة على القتل المستمر من أجل استمرار الحياة، ولولا الموت لما وجد الأحياء من كل الكائنات متسعًا ليحيو! قاسية هي الحياة، ولقسوتها حكمة ولا بد، ولم يرحم من لم يقس.

«فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازمََا

فليَقْسُ أحيانًا على من يرحمُ»

— أبو تمام


(2)

من رحمتنا الواجبة بأنفسنا أن نقسو عليها، ومن قسوتنا أن نكفكفها عن الاسترسال مع مرغوباتها وإن كانت جميلة مباحة لأنها إن استرسلت هلكت وأهلكت، وفسدت وأفسدت؛ فمن أراد بها الخير وجب عليه أن يمنعها، ومن رغب في عاقبة الراحة لها فليتعبها؛ فالراحة في ترك الراحة، والنعيم في ترك النعيم.

الترك والاستبدال ودفع تكلفة الفرصة البديلة باصطلاح الاقتصاديين قانون عام في الدنيا، وضرورة لاستمرارها، ومن خالفه وأراد جمع كل شيء فسينتج عن ذلك تضييعه لكل شيء، فرب أكلة منعت أكلات كما قيل.

«والنفس كالطفل إن تهمله شب على 

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها

إن الطعام يقوي شهوة النهم»

— البوصيري

(3)

قبيحٌ مستقذرٌ حال هذا النهم المصاب بمرض إدمان الطعام، أو الشره المرضي العصبي (Bulimia Nervosa) يأكل حتى تمتلئ معدته، ثم لا يتوقف! بل يواصل حشر الطعام إلى أن يقييء ما أكل، ولو أنه استطاع ترك هذه الزيادة ومنع نفسه من تناولها لحفظ على نفسه ما أكل أولًا، فقط لو أنه فهم أن ترك بعض الطعام شرط لازم لتحصيل الانتفاع بباقيه، وأن لا عطاء بغير منع، ولا غنيمة بدون بذل.

ولكن الإنسان خلق هلوعًا، للدنيا جموعًا، ولماله عن الناس منوعًا، حتى تدعوه النار التي «تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ  وَجَمَعَ فَأَوۡعَى» (المعارج: 17، 18) وتجده قد يبخل حتى بما لا ينفعه، لكنه يقول لنفسه: لعلي أحتاج إليه لاحقًا. وفي أسر هذه الرغبة في التكديس والجمع والادخار والمراكمة ازدحمت بيوت وعقول ونفوس كثير من الناس بالكراكيب كما يسميها المصريون.

وأغلب هذه المقتنيات قد لا يستخدمها صاحبها بل ولا يتذكرها أصلًا ليخرجها من خزائنها، وحقائبها، وصناديقها، وتبقى راقدة في مدافنها تلك الشهور وربما لسنوات طوال.

يشبه هذ الفصل ظاهرة تصيب كثيرًا من الأطفال، تبدو أسبابها مضحكة لنا معشر الكبار، وإن كانت هذه الأسباب باقية في نفوسنا بصورة أو بأخرى. إنها ظاهرة الخوف من التبرز (Fear of DefecationK)، وهي تصيب الأطفال في مرحلة التدريب على الإخراج اليقظ (Conscious Elimination).

ومن أسبابها خوف الأطفال من فقدان فضلاتهم لأنهم يشعرون أنها جزء لا يتجزأ منهم، وأنها بسقوطها في المرحاض كأنهم سقطوا هم فيه، وكأن أحدهم يقول: كيف يمكنني مواصلة الحياة إذا ما فقدت هذا الجزء المهم من جسدي؟!

يحاول الراشدون حينها أن يشرحوا له ضرورة التخلص من هذه الفضلات، وإخراجها من جسده، وأن بقاءها فيه يضره، وغير ذلك مما هو معلوم بالبداهة للجميع، لكن المفارقة هي أن الدنيا بكل ما فيها من زينة ومتاع وزخرف ليست إلا كهذا الطعام جميل الشكل طيب الرائحة، الذي ما إن يؤكل حتى يتحول إلى هذه الفضلات المستقذرة التي يجب التخلص منها لينجو الجسد من سمومها، وإن البخيل بالدنيا لأشد حمقًا وجهلًا من هذا الطفل البخيل بفضلاته ظنًا منه أنها نفيسة نافعة.

وفي ذم المصريين لمن يبخل بها لا ينفعه بقاؤه معه قالوا: «فلان هذا لا يبول على يد مجروح» وذلك أنهم في الحقول قديمًا كانوا يستعملون البول ـ إذا لم يجدوا غيره ـ في إيقاف نزيف الجروح، فيأتي هذا البخيل الأحمق فيبخل على هذا الجريح النازف بهذا البول الحقير.

***

«لاتستطيع ترتيب أفكارك إلا إذا استغنيت عن بعضها».

— أسعد طه

(4)


ليست الأفكار فقط، بل الأشياء، والأشخاص وكل شيء تقريبًا، وبمطالعة كتاب «فن الترتيب» مثلًا للكاتبة اليابانية ماري كوندو، أو غيره من كتب تنظيم وإدارة المقتنيات، نجد ما يشبه الاتفاق على ضرورة ترتيب الأولويات والاقتصار على ما تستخدمه أو تحتاج إليه فعلًا من أشيائك، وذلك أنه بداهة لن تجد مساحات في مكتبك أو منزلك للاحتفاظ بكل شيء مع عدم التخلص من شيء.

أما المصابون بمتلازمة التكديس القهري (Compulsive Hoarding Symptoms) فإنهم شبه عاجزين مرضيًا عن التخلص من الأشياء التي ينبغي التخلص منها، كتذاكر المواصلات، والجرائد القديمة، والملابس البالية، وعبوات الصابون الفارغة، وكل شيء مهما كان تافهًا!

وهذا التعلق المرضي بالدنيا وأشيائها إنما جاء الأنبياء وهم أطباء القلوب لعلاج البشر منه، وما أنجح العبادات كلها من فرائض ونوافل في مداواة هذا التعلق، وتوجيه همم العباد إلى الحياة الحقيقية الباقية «وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُۚ» (العنكبوت: 64)

وهذا التدريب على الترك والتخلي والتخفف يظهر أوضح ما يظهر في عبادة الصيام، وذلك مع ظهوره في العبادات كلها، إذ العبادات كلها أفعال وتروك، الصلاة: ترك لمشاغل الحياة ثم القيام بمجموعة من الأقوال والأفعال. الزكاة: ترك لبعض الأموال وإخراجها من ملكك ودفعها في مصارفها. الحج: خروج بالنفس والمال لأداء بعض الأعمال البدنية وإنفاق بعض الأموال في مصارفها. أما الصيام فليس فيه شيء من ذلك، إنما هو الترك فقط.

في العبادات كلها مطلوب منك أن تفعل، وفي الصوم فقط المطلوب منك أن لا تفعل، أن تترك، أن تتخلى، وأن تدرب نفسك على كسر شهوتها، ومخالفة هواها، والمأمول أن يعودك هذا الترك للطعام والشراب وغيرهما على ترك الدنيا وما فيها، والتجهز للرحلة الحتمية القريبة التي لن ينفعك فيها من الدنيا شيء إلا شيء قدمته لنفسك، ولن تقدم لنفسك هناك إلا بقدر ما تترك هنا.

***

«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»

— حديث شريف

(5)

تعرف اختبار الجبل؟

عندما يجهز أحد الرحالة حقيبته يبدأ التجهيز بإفراغها من جميع الأغراض، ثم يمسك الواحد منها منفردًا ليعرضه على اختبار الجبل، وهو سؤال واحد يقول: هل أحتاج إلى حمل هذا الشيء على ظهري إذا كنت سأصعد بحقيبتي هذه طريقًا جبليًا وعرًا؟ وإذا لم تكن الإجابة نعم فإنه يتخلص من هذا الغرض فورًا ولا يضيفه إلى حقيبته.

وفي معنى هذا الاختبار يأتي قول الصحابي عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ إذ يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» كأنه يقول: خذ ما تحتاج إليه فقط، واترك كل شيء.

***

«النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت

إِنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها

لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها

إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها

فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها

وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها»

— الإمام علي بن أبي طالب

***

قال الله ـ وخير القول قول الله ـ: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا(45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» (الكهف: 45، 46)

# دين # شهر رمضان

الهجوم على مكة والمدينة: كيف حاول الصليبيون سرقة جسد النبي محمد؟
هل بقاء الشر مقصود إلهي؟ (أوهام النقاء الثوري، وأسطورة نهاية الشر)
«بلعام بن باعوراء» شبهه القرآن بالكلب: فهل كان نبياً «مرتشياً»؟

معرفة